شعوب العالم تقول "حاميها حراميها"!

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
20/04/2011 06:00 AM
GMT



"باي باي دولارات"! تقول ذلك حالياً الأسواق المالية العالمية، وكانت قبل أيام مهمومة بوضع عملة "اليورو" الأوروبية المهددة بخطر إفلاس إيرلندا واليونان والبرتغال. فالتدهور في سوق الأسهم في "الوول ستريت" هبط بالاقتصاد الأميركي إلى مرتبة لم تحدث منذ الهجوم الياباني على "بيرل هاربر" قبل سبعين عاماً. وتعتقد مؤسسة التقييم "ستاندرد أند بور" التي أعلنت ذلك أن "الولايات المتحدة لا تملك مناعة من أزمة القروض السيادية". وهذه نكتة يضحك عليها ومعها مشاهدو فيلم وثائقي عن الانهيار المالي الأميركي تعرضه دور السينما حالياً. وهو "فيلم" بالمعنى الذي يستخدم فيه العراقيون كلمة "فيلم" لوصف حدث يصعب تصديقه؛ "هذا شلون فيلم"!
 
عنوان الفيلم Inside Job أي بالعربية "حاميها حراميها"، وموضوعه الانهيار المالي الذي أدى إلى خسارة 20 تريليون دولار عام 2008 وتدمير مستويات حياة ملايين الناس. فضيحة اختفاء هذا المبلغ "الأسطوري" تلاحق عدداً من أكبر المسؤولين والمصرفيين والأكاديميين الأميركيين، ولأن الامتناع عن الحديث اعتراف بالذنب فمعظم المتورطين بالكارثة تورطوا بالموافقة على الظهور في الفيلم، وطلب بعضهم إيقاف التصوير. واستعان مخرج الفيلم بلقطات إضافية من أحاديث تلفزيونية لبعض المسؤولين عن الأزمة، كبوش الابن، و"ألن غرينسبان"، رئيس الصندوق الاحتياطي الفيدرالي الأميركي نحو عشرين سنة، والذي يُعتبر الأب بالعماد للأزمة، وخلفه الحالي "بن بريننك". وتحدّى الاستجواب هانك باولسن، وزير الخزانة السابق في عهدي بوش وكلينتون، والرئيس التنفيذي السابق لبنك "غولدمان ساش" الذي تحقق معه حالياً وزارة العدل الأميركية. "إنها قصة خسيسة عن وكر أفاعي حافل بالجشع، وصراع المصالح والأعمال الشريرة". وهذا ليس إعلاناً عن الفيلم، بل تصريح كارل ليفين رئيس لجنة الاستجواب في مجلس الشيوخ حول ما كشفته وثائق "غولدمان ساش" الداخلية والتي استغرق جمعها سنتين.
 
تبدأ أحداث فيلم "حاميها حراميها" في "آيسلندا" حيث انفجرت الفقاعة المصرفية الكبرى وجعلتها أول دولة تعلن إفلاسها. وتتلاحق الأحداث كما في أفلام مغامرات عصابات لصوص المصارف، إلاّ أن اللصوص هنا مصرفيون محترمون لا يقتحمون البنوك مقنعين شاهرين مسدساتهم. يذكر ذلك مخرج الفيلم تشارلز فيرغسون، الذي أجرى مقابلات مع مصرفيين مشهورين بابتكار أدوات ومنتجات مصرفية نهبت أموال جمهور المودعين المأخوذين بأرباح تكتم الأنفاس، والمستثمرين المسعورين في الحصول على فوائد فاحشة. وكانت المصارف المؤمَّنة آنذاك ضد الديون السيئة عن طريق المقايضة بقروض التخلف عن أداء الديون قد انطلقت في عمليات بيع مجنونة لمنتجات مالية خطرة، وهي مطمئنة إلى مردود المقايضة السخية. ويحوّل الفيلم صالات السينما إلى مسارح ينفجر جمهورها باللعنات والشتائم والهتافات والتصفيق. وكيف يمكن ضبط الجمهور في عاصمة إيرلندا دبلن، التي كانت حتى وقت قريب أرض المعجزة الاقتصادية القائمة على التكنولوجيا المتقدمة، وتبُاعُ الآن منازلها التي تخلّف مالكوها عن دفع قروض المصارف بأسعار أقل من ربع ثمن منازل مماثلة في بغداد؟
 
وكما يقول السيد المسيح "إذا فسد الملح بماذا نملحه". فأفظع وقائع الفيلم تجنيد البنوك أساتذة اقتصاد في جامعات النخبة الأميركية التي تحتل المراتب الأولى في التصنيف العالمي للجامعات. مقابلات هؤلاء الأكاديميين الذين كانوا مهووسين بابتكار نظريات تدعم تلك الممارسات يدفع إلى الاعتقاد بأن الأزمة ليست مصرفية فحسب. إنها مأساة ديناصور عملاق يتفسخ أمام أعيننا كلأسلافه الذين اندثروا عند تغير مناخ الكرة الأرضية. يدرك ذلك علماء اقتصاد نبلاء وشجعان اعتبروا الغزو الأميركي للعراق جزءاً من هذه المأساة. وأكاد أسمع نبض قلب "بول كروغمان"، الحائز على "نوبل" في الاقتصاد، وهو يعتذر عن مقالته "أسطورة التنافس" التي تفجر ما يسميه "فقاعة" سمعة فخر شركات الصناعة الأميركية "جنرال إلكتريك"، ويذكر أنها "تحصل حالياً من عملياتها المالية موارد أكثر من إنتاجها الصناعي"، وكانت بين أكبر المستفيدين من ضمانة "وول ستريت" البالغة نحو تريليون دولار التي قدمها "البيت الأبيض" للمؤسسات المصرفية المفلسة!
 
و"ضمانة وول ستريت" عنوان فيلم سينمائي يُعدّه الممثل المشهور جورج كلوني في موجة أفلام وبرامج تلفزيونية تجتذب ملايين المشاهدين، كبرنامج "بانورما" في الـ"بي. بي. اسي" هذا الأسبوع وعنوانه "محتال التريليون دولار". وأغرب ما في قصة هذا المحتال ليس غموض أصله وجنسيته، بل قدرته على خديعة زعماء اتحاد كرة القدم البريطانية، وبينهم من يحمل لقب النبالة "سير"، وبعضهم استجاب لدعوته لزيارة كوريا الشمالية والالتقاء بزعيمها كيم جونغ!
 
إنه "قلب الرأسمالية المحطم" حسب بيتر ستون، محرر الأعمال في الـ"بي. بي. سي" والذي قدم أخيراً برنامجاً يكتم الأنفاس عنوانه "البنوك البريطانية أكبر من أن تُنقذ". واكتشافات السينمائيين والإعلاميين كالانهيار المالي نفسه تأتي متأخرة سنوات عدة عن نشر الكاتب الأميركي "هانز سشيت" في الإنترنت بحثه المشهور "موت المصارف". وقد أتاح له وضعه كمراقب اقتصادي أن يرى من الداخل "حفنة فقط من ملوك البنوك العالمية يملكون ويسيطرون على كل شيء بواسطة شبكة عنكبوت مالية عالمية خفية.. وكل شخص، وناس، ومؤسسة، وكذلك الولايات المتحدة، والبلدان الأجنبية قد أصبحوا جميعاً عبيداً مقيدين بحبال قروض المصرفيين". وتوقع قبل وقوع الانهيار بسنتين فشل الخبراء الذين يتحدثون عن العودة إلى معيار الذهب، أو عقد اتفاقية "بريتون وودز" جديدة، بل حتى الدعوة إلى عملة عالمية موحدة. وذكر أن "أياً من هذه المقترحات لا يمكن أن يبلغ قعر المشكلة، ولن يكون كافياً لمنع الانهيار المالي. والسبب بسيط: النظام المالي الحالي بأسره يقوم على أسس خاطئة، وقواعد خارجة عن القانون".
وفرغسون أيضاً جاء من داخل المجتمع المالي، إلاّ أن غزو العراق دفعه إلى إعداد فيلمه الوثائقي "لا ضوء في آخر النفق" الذي فاز بالأوسكار عام 2007. وفيلمه الحالي "حاميها حراميها" دليل عمل لسينمائيين شباب عرب موهوبين سيحققون بأفلامهم الشجاعة أرقاماً قياسية في شباك التذاكر العالمية. فالعالم يتطلع بإعجاب لموجة الثورات العربية، وملايين الناس الذين تظاهروا في العواصم العالمية ضد غزو العراق يتلهفون لرؤية شهرزاد تقاوم الموت في الليلة الثانية بعد الألف بالحكاية العجيبة الغريبة لـ"المصرف العراقي للتجارة". فهذا المصرف الحكومي التابع لوزارة المالية العراقية لا يملك شهادة ميلاد، ولا يعرض موقعه الذي يتحدث الإنجليزية فقط خطابات اعتماده من قبل الحكومة العراقية، أو سجلات تأسيسه في يوليو 2003، أي قبل تأسيس حاكم الاحتلال الأميركي بريمر ما يُسمى "مجلس الحكم". وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.